دار عدد من من المشاهد الهامة في فيلم الراحل أحمد زكي "البيضة والحجر" على سطح أحد البنايات في وسط القاهرة فيما سطع في الخلفية ليلا إعلان "كوكاكولا" ذو أضواء حمراء براقة وبجانبه إعلان أقل إشعاعا لـ"سفن أب" غالبا من دون اتفاق بين صناع الفيلم وشركتي المشروبات الغازية الشهيرتين.
كان الإعلان موظفا دراميا في إشارة إلى عاصمة تتحول إلى عصر جديد من الانفتاح التجاري والاقتصادي تصطدم بقيم مدرس الفلسفة وتجرفه إلى تيارها مع نهاية الرواية، أو فنيا كنوع من الإضاءة المختلفة في المشهد، ولكنه حتما لم يكن استخداما تجاريا من صناع العمل.
وفيما تعاني شخصية "نبيل" من حيرة عاطفية تسيطر عليها في أحدث أفلام أحمد حلمي "بلبل حيران"، فإن بطل العمل كان أكثر فطنة من اللاعبين بالبيضة والحجر في عام 1990، ونجح في توظيف الإعلان تسويقيا من خلال اجتذاب عدد من الرعاة على رأسهم صحيفة "المصري اليوم" ومقهى "سيلانترو".
ويحتسي حلمي وشخصيات أخرى قهوتهم في المقهى الشهير في أكثر من مشهد كما لا يطالع البطل أو حتى يتواجد بالصدفة في أي مكان يضع صحف أخرى غير "المصري اليوم".
مؤسسة حلمي "بلبل حيران" ليس الفيلم الوحيد لحلمي الذي يحظى بتواجد رعاة، وإنما تواجدت صحيفة "الشروق" وشركة خدمات المحمول "اتصالات" في عمله الماضي "عسل أسود" وآخرون في "ألف مبروك" و"آسف على الإزعاج" وإن كان بشكل أكثر تواضعا.
تواجد الرعاة بكثافة في أفلام حلمي يعد امتدادا لظاهرة تحول النجم الصاعد من مجرد ممثل كوميدي إلى مؤسسة كاملة، تتخذ الآن شكلا واضحا في شركة "شادوز" التي يمتلكها حلمي والتي تقوم بالجهود التسويقية الخاصة بأفلامه.
وعلمنا من مصدر داخل "المصري اليوم" أن شركة حلمي هي من قامت بالاتصال بالصحيفة واسعة الانتشار لعرض فكرة رعاية الفيلم عليها، في مقابل مساحات إعلانية أو فوائد أخرى تساهم في تسويق الفيلم بغير الصور التقليدية المعروفة.
ومع تزايد عدد معجبي حلمي وارتفاع أرقام المبالغ التي تجمعها أفلامه في شباك التذاكر، فإن شركات مختلفة تروج لمنتجات وخدمات متعددة ربما تسعى مستقبلا لضمان التواجد في أفلامه سعيا لمساحات إعلانية غير مباشرة ضمن الأحداث.
وقد يكون حلمي هو الأنجح حاليا في اجتذاب الرعاة إلى أفلامه، ولكن أول من استخدم هذا المفهوم بصورة كبيرة في السوق المصرية كان طارق العريان، الذي تضمن فلماه "السلم والثعبان" و"تيتو" عددا من الإعلانات الموظفة في سياق الدراما. العريان كان رائدا أيضا في إضافة الرعاة إلى الفيديو كليب بأغنية فريق واما "زي ما بحلم" التي ضمت عددا من المعلنين أمثال "فيديكس" و"ليبتون" وآخرين.
همس الأعلان ولكن لماذا بدأ المعلنون في اللجوء إلى الحصول على مساحات في الأفلام بدلا من الاعتماد بشكل كامل على الإعلانات المباشرة سواء على الشاشات أو الصحف أو الإنترنت؟
"لأن الجمهور أصبح منزعجا من كم الإعلانات المباشرة التي تحاصره يوميا في الشارع والتليفزيون والراديو وكل مكان يتواجد فيه. هذه الإعلانات أصبحت مثل أصوات عالية ومنفرة،" وفقا لخبير التسويق الإنجليزي توم سانجرز.
ويضيف سانجرز في مقال بموقع "إي زين" حول المساحات الإعلانية بداخل الأفلام: "هذه الإعلانات تأتي وسط هذا الصخب وكأنها تهمس في أذنك وبالتالي تحصل على انتباهك".
وتابع "إذا استطاع المعلنون الهمس لفترة كافية وبصورة احترافية في أذنيك عبر مدة الفيلم، فإن هناك احتمالات كبيرة أن تثبت هذه الأفكار في ذهنك وتحملها معك بعد مغادرة دار العرض".
ولكي تتحقق الفائدة للفيلم وللمعلن معا، يتعين على المخرج التحلي بالفطنة في أماكن وضع الإعلان وكيفية استخدامه كي يبدو طبيعيا وليس مقحما على السياق.
فالإعلان الصحيح يساعد الصورة كي تبدو أكثر واقعية، فتواجد زجاجة مشروب غازي حقيقية تحمل اسم المنتج والعلامة التجارية يعطيها شكلا حقيقيا أكثر من كلمة "مشروب" التي كانت تطبع بسذاجة في أفلام قديمة تجنبا لتحمل كلفة الإعلان من قبل صناع الفيلم.
العكس صحيح أيضا، لأن تواجد المنتج بشكل يخالف مكانه الطبيعي يعطي المتفرج إحساسا بأنه مقحم على السياق، وهو ما وقع فيه حلمي حينما كان جالسا في مطعم يضع رفوفا للصحف ولم يكن عليها سوى "المصري اليوم" فقط بعدد كبير من النسخ، وهو ما لا يحدث في الواقع بالطبع لأن هذه الرفوف دائما تضم أكثر من صحيفة ومجلة.
منذ الخمسينات وفيما لاتزال السينما المصرية تتحسس طريقها نحو تضمين الإعلانات والرعاة بداخل الأفلام، فإن هذه الجهود التسويقية عرفت طريقها إلى هوليوود منذ خمسينات القرن الماضي.
ويشار غالبا إلى فيلم Queen of Africa الذي أنتج عام 1951 من بطولة هامفري بوجارت وكاثرين هيبورن باعتباره أول الأفلام التي تضمنت مشاهد إعلانية واضحة للمشروب الكحولي "جوردونز جين" والذي روجت له الجميلة هيبورن في أكثر من مشهد عبر الفيلم.
وارتفعت أهمية ووضوح الإعلان بداخل الأفلام مع Back to the Future من خلال ظهور منتجات متعددة لشركة المشروبات الغازية الشهيرة "بيبسي".
وصلت هذه الاستراتيجية إلى ذروتها في الأعوام العشرين الأخيرة التي شهدت شراكات كثيرة بين أفلام ناجحة ومعلنين كبار منها على سبيل المثال شركة الأدوات الرياضية "ويلسون" في فيلم Cast Away و"أمريكا أون لاين" في You’ve Got Mail للممثل الشهير توم هانكس و"ري بان" في Men in Black II و"فورد" بطرازي "موستانج" و"إكسبيدشن" في I Am Legend والفيلمين الأخيرين للنجم ويل سميث.
الأبرز في مجال الإعلان والتسويق عبر الأفلام كان فيلما من بطولة سميث أيضا وهو I Robot الذي قدمت شركة "أودي" لصناعة السيارات من خلاله طرازا جديدا تم تصنيعه خصيصا من أجل الفيلم كمثال للسيارات المستقبلية في زمن قادم كالذي تدور فيه أحداث الفيلم.
وصممت الشركة الألمانية الطراز RSQ ونفذته بعد جلسات عمل طويلة مع مخرج الفيلم وطاقم عمله إضافة إلى الاطلاع على كافة ديكورات العمل كي تكتمل الصورة وتصبح أكثر واقعية في خطوة لم يسبقها إليها أحد من صانعي السيارات أو رعاة الأفلام عموما من قبل.
ويظل أطرف علاقة شراكة من هذا النوع مسجلة باسم توم كروز وفيلمه الشهير Jerry Maguire الذي كان من المفترض أن تظهر من خلاله شركة "ريبوك" للأدوات الرياضية كأحد الرعاة من خلال إعلان في نهاية الفيلم، ولكن الإعلان لم يظهر لأسباب فنية، كما عانت الشركة ضربة أخرى قاضية حينما جاء سطر في الحديث على لسان بطل الفيلم يبدي فيه امتعاضه من الشركة، وهي السقطة التي لاتزال هوليوود تشير إليها إلى الآن!